١٦‏/٣‏/٢٠٠٧

الحرملك


‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡

انه وقت العتمة .. سكون تام .. و مدينة نائمة مظلمة .. خالية إلا من بعض القناديل التي تنير الطرقات للعسس القائم بحراسة الدروب


تلك الليلة لا تختلف كثيرا عن باقي ليال العاصمة الصماء .. فالدكاكين مغلقة و الحارات ساكنة و لا صوت إلا نقيق الضفادع و قرع أحداء الخيول السيارة .. حين تمر بها ستظن انها مدينة موتى لولا تلك الحانات على أطراف المدينة لمن أراد الأنس بالغانيات أو الكؤوس

و لتعلم أنك إن صادفت أحدا في الطرقات في مثل هذة الساعه لن يكون سوى عابر سبيل أو جحا الفقير يتسكع و حماره بحثا عن طعام يملأ معدته الفارغة كالعادة

حقد و حسد يسكن قلوب العسس الذي يجوب الطرقات في برد الليل تجاه ذلك الذي يحرس قصر الشاهبندر فهم ينعمون بما لذ و طاب من الطعام و أولئك يلتقطون فتات الطعام و بقاياه من الشوارع او مما يتفضل عليهم به أهل المدينة .. كما أن هؤلاء الذين يحرسون القصر ينعمون بالدفء و نظيف الملبس و المأوى فضلا عن مشاهدة الحفلات التي تقام في القصر .. و ما كان التفضيل في قوة و لا بسالة و إنما كانوا معارف الشاهبندر ..لكم سخطوا على تلك الدنيا التي لا تقسط بين الأخوة و تسري أمورها بالهدايا أو المعرفة

عسس القصر في نعيم .. و أنعمهم ذلك الحارس الذي يسكن على باب الحرملك فهو مساو لأقرانه في النعم بجانب إستمتاعه بقهقهات الحريم و حكاويهن النسائية الساخنة

خلف ذلك الباب المذهب إجتمعت ألوان شتى من الحريم .. السمراء و الشقراء ، الرزينة و اللعوب ، الشرقية و الغربية .. كلهن قابعات في الحرملك بأوامر الشاهبندر

منهن من كان حلمها أن تصبح من حريم القصر و منهن من أتين صاغرات مجبرات .. و منهن جوار إماء .. و أكثرهن عطايا للشاهبندر

تلك المرأة الأندلسية .. بنظرة واحدة لعينيها الغزلانية تتيقن انها ما خلقت قط إلا لنعيم الدنيا و متاعها و إنك لتصعق إذا ما رأيت دمعتها الندية و علمت مأساتها الجلية و كيف قتل جميع أهلها و سبيت من ديارها .. و انتهى بها الحال وسط الحريم الشقية و قد كانت إذا أطلت من شرفتها ركعت لها الأسود .. و غارت منها الظباء .. و تمنتها قلوب الوحوش الأبية

و تلك الشامية الحسناء ووجهها الصافي البرئ بإبتسامتها تنير الدنيا من نور وجهها .. ستتمنى الموت عندما تسمع نحيبها و بكائها .. على ما حدث لأهلها .. بسببها .. فقد أنعم الله عليها .. جمالا لم يهبه نساء ديارها .. فرآها الشاهبندر فطلبها .. و لما أبت غار على أهلها .. و أستعبد رجال بيتها .. و أستولى على ملكها .. و سباها مع من سبى

حتى تلك الهندية السوداء .. و كانت من طبقة الفقراء المنبوذة دائما عند الأثرياء .. استطاعت دخول القصر بدهاء .. بعدما دقت باب العرافين و السفهاء لتقتحم عالم النبلاء فغرتهم بكلمات الوفاء والولاء و أغوتهم بكثرة المدح و الثناء .. و من وقتها دخلت برجليها معتقل النساء .. و ما رأت فيه من أمالها سوى الإستحمام في حمام القصر

‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡

هائما جحا على وجهه يطوى دروب المدينة طيا .. ما يساعده به الناس يساعد به الفقراء .. رغم انه فقير و لا يجد لقمة العيش لكنه غني بحواديتة

فإن لم يجد من يحكي له حكى لحماره

يا حمار .. قد كان لسيدك جحا حمار أعمى نشأ وسط جحوش البلدة .. و كان لحمار جحا ذيل قصير فأضطهده الجحوش و عايروه و أذوه فما أستطاع أن يرد أذيتهم و ما أستطاع أصلا رؤيتهم فتمنى لو يحكمهم فيقطع ذيولهم .. كبر الحمار ولم يكبر ذيلة معه و ظل كاتما مقصده حتى وقعت في حبه حمارة الوالي فتزوجها و كان أول ما أمر به هو ذيول الحمير فلما قطعها لم يشفى غليله فأمر بأعينهم و لما أعماهم لم يشفى غليله أيضا .. فأمر بأذانهم فلما قطعها هدأت سريرته و سكنت نفسة و ظن أنه ثأر لنفسه .. و ذات يوم إجتمعت عليه الحمير و أوسعوه ضربا و تقطيعا ثم تركوه ليموت .. هنا أرتد لحمار سيدك بصرة – يا لسخرية الاقدار – فلما أبصر أكتشف أنهم حمير و أنه لم يكن الا مجرد حمار .. ثم مات

‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡

ما ترى قصر الشاهبندر خاليا قط .. فإما فقراء يستعطفوه أو تجار يهادوه أو أمراء يحالفوه .. و إن لم يك هؤلاء فعنده أعوانه .. يخدعونه بمكرهم و يطوونه تحت ابطهم ليقلبونه على عشيرتة ورعيته حفاظا على مصالحهم وسلطاتهم

كساد التجارة و خمول حالها أضر بمصالح التجار فبعضهم مهدد بالافلاس وبعضهم خسر ما قضى سنينا في جمعه والبعض بات لا يجد قوت يومه .. وبين هذا وذاك يداعب أعوان الشاهبندر جواريهم ويلقون الدنانير تحت اقدامهم

مع زقزقة طيور الفجر وعلى مقربة من القصر يرصد بصاصوا الشاهبندر ذلك اللقاء الذي جمع تجار المدينه يتحدثون عما حل بتجارتهم من ركود

فذلك تاجر الذهب بثوبه الحريري المسدل لطالما ازدرى الجلوس مع عامة التجار

وذلك تاجر السلاح بهيئته الحازمة وكلماته التي اكتسبت حدتها من حدة السيوف تفل لها دروع الاخرين

أما تاجر الحبوب فتعرف تواضعه من نعليه اعتادت الطيور ان تأكل من يمينه

و تجار البهائم و تجار الأقمشة كل سعى للقاء إلا من يبيعون الخمر و يتكسبون من عرق الغوازي

ما كان تاجر السلاح ليسمع متكلم

و ما كان لتاجر الذهب أن ينصاع لحافيا

و ما كان لتاجر الحبوب أن ينصر أحدهم

و الباقون مشاهدون و معترضون و محايدون

فض اللقاء انهم لخاسرون

و ظل الحال كالحال .. و صاح شيطان في وجه الشاهبندر انك لموعود ، إنك لغافل عما يفعلون ، انهم يجتمعون لعلهم يتفقون و أنك إذن لمعزول

دار المنادي في شوارع البلده يدق بعصا على طبلته

أيا أهل البلدة أسمعوا .. أخبروا من بباب القصر تجمعوا .. إن السجون ملعب و مرتع .. لمن على الحكم تآمروا .. قد بلغت حديثة و بعقولكم فلتعوا .. أيا أهل البلدة اسمعوا

حريم القصر سمعن نداء المنادي فلم يتعجبن فقد إعتدن على بطش الشاهبندر .. إنه لو سجنهم لكان رحيم بهم .. انه ليعشق لون الدم ترى ذلك جليا على أجساد حريمه .. إنهن ليطعنه لأنه ولي أمرهن .. و لكنه لا يرضى بالطاعه لأجل الطاعة .. فهو يأمرهن بالرقص بسياط يشق ظهورهن و إذا ما أراد الطرب يأمرهن على ملاطمهن .. أما إذا أراد الطعام فلا بد أن يتبل بدموع إحداهن .. و رغم ذلك لا يتمنين الفرار منه بل يتوددن وهو يبطش بهن

‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡

دائرة في الحارة الضيقة رسمها أطفالها يتوسطهم جحا جالسا .. يحكي لهم من حكاياته

جفت الأخصاب و أصفر الأخضر حتى تلك الديدان التي تقتات على أوراق النباتات لم يعد لها مكان في تلك القرية الجدباء .. تبدلت الجنان الخضراء المثمرة بذوات أكل خمط وشيء من سدر قليل .. غيض ماء الأرض وبخلت عليها السماء

حاول أهل القرية أن يسترضوا السماء فتجود وتوسلوا لماء الأرض أن يعود – لكن لا تلد إلا الولود – و العرافات لا يفين بوعود

الناس غرثى ظمأى لا يملكون إلا ما يواري عوراتهم .. الهلاك يدق أبوابهم حتى انهم حفروا قبورهم مستسلمين لملك الموت

فيسمعون صوت مناد يا أهل القرية ما عندكم لعابر سبيل ؟ فما أجابوه إلا بنظرة بؤس واحتضار

رق الشيخ لحالهم فبللت دموعه لحيته البيضاء

ترى ماذا جنيتم يا أهل القرية ؟ إن لم يشب الحقد والبغضاء قلوبكم ما حل بكم ما آلت إليه حالكم

ماذا جنيتم يا قوما بورا لولا ابتعادكم عن الذي برأكم لما غضبت عليكم السماء والأرض

اعلموا أن العزة ليست في قصور ملوككم ولا في كبر صدوركم إنما العزة في تذللكم لربكم

وإنما الذل هو ما عليه رأيتكم

اصطفوا نستسقي ربنا

خشع أهل القرية جميعا بين يدي ربهم خشوع قلب واحد وسألوه بدموعهم سؤال رجل واحد ، وأكفهم ضارعة ككف رجل واحد

فما كان من الكريم إلا أن سقى أرضهم واذهب غيظ قلوبهم.

‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡

انتهى اليوم .. وحان موعد العودة .. حارس الحرملك يفتح لهن الباب بنظرة لهفة واشتياق لما سيستمع من أحاديثهن




ليست هناك تعليقات: